جاري تحميل ... سور الازبكية

إعلان الرئيسية

أخبار عاجلة

إعلان في أعلي التدوينة

تحميل مراجع مجاناشروحات

سور الازبكية | مناهج البحث في الدراسات السينمائية


مي التلمساني ([·])

نشأت الدراسات السينمائية بوصفها بحثا فكريا يستمد من النقد الأدبي والفلسفة وعلم النفس مصادره المعرفية الأولى في عشرينيات القرن العشرين، حيث أسهم العديد من المخرجين الطليعيين أمثال جان ابشتاين وسيرجي ايزنشتين ودزيجا فيرتوف فضلا عن عدد من رواد النقد السينمائي الأوائل مثل بيلا بالاش وسيجفريد كراكوير في إنتاج خطاب نظري عن السينما مواز وملازم للإنتاج السينمائي بوصفها حرفة وفنا. وفي أقل من عشرين عاما، ومع تراكم وغزارة الإنتاج النقدي والنظري المعني بفهم وتحليل جماليات السينما، سرعان ما توجهت المعاهد والمدارس السينمائية المتخصصة لتدريس نظرية الفيلم أيضا، وعلى رأسها معهد الإيديك الشهير الذي تأسس في فرنسا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم معهد الفيلمولوجيا بجامعة السوربون الذي تأسس في نهاية الأربعينيات. وقد اعتمد المعلمون في هذه المعاهد على كتابات الرواد من المخرجين الطليعيين وكتابات النقاد المعاصرين، وبرزت أسماء جديدة في عالم النقد قامت بالتأريخ للسينما الأوروبية والعالمية وتدريس نظرية الفيلم أمثال جورج سادول وجان ميتري وكلاهما عمل بالتدريس في الإيديك منذ نشأته. في هذا السياق أيضا، بدأ انتشار المجلات العلمية المهتمة بنشر الأبحاث المتخصصة في الدراسات السينمائية وسعى النقاد والمنظرون لمواكبة الطفرة الكبرى في تاريخ النظرية الأدبية الحديثة، مع انتشار المدارس البنيوية والشكلانية في النقد الأدبي.
ولم يكن لنظرية الفيلم أن تتمتع بهذا القدر الهائل من الانتشار لولا جهود النقاد والمعلمين الذين حاولوا ربط السينما بالفنون الأخرى وفتحوا المجال لفهم السينما من منظور شامل يستقي مصادره من نظرية الأدب والفلسفة وعلوم الاجتماع والإنسانيات بالإضافة لإقبالهم على ترسيخ قاعدة مؤسسية من خلال وسائل النشر المعرفي أكاديمي والنقدي ومن خلال الجامعات والهيئات التعليمية التي أثرت في الدراسات السينمائية في أوروبا وأمريكا. واتساقا مع تاريخ نشأتها وانتشارها، ظلت الأقسام المعنية بالدراسات السينمائية تحت لواء كليات الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية ومراكز البحث المنبثقة منها، فيما تولت معاهد وكليات الفنون العملية والتطبيقية مهمة تدريس حرفة وفن السينما، وإن كانت كلتا الشعبتين تعنى بمناهج التعلم والبحث المستخدمة في نظيراتها المختلفة. فلا سبيل لتدريس حرفة وفن السينما من إخراج وكتابة سيناريو وإنتاج وتصوير ومونتاج وصوت وما إلى ذلك من حرف وفنون إلا وكان من اللازم دراسة تاريخ السينما وسياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية سواء بوصفها مؤسسة ثقافية أو صناعة وطنية أو كوسيلة تواصل تؤثر في المخيلة الجمعية وتتأثر بها. وفي المقابل لا يستقيم البحث في مجال الدراسات السينمائية ونظرية الفيلم من دون تعلم مبادئ الحرفة والفن السينمائي كما يمارسهما المبدعون والفنيون المختصون، الأمر الذي يدفع المهتمين بالدراسات السينمائية في مجالات التاريخ والنقد ونظرية الفيلم للتعرف على مبادئ الحرفة ذاتها والاطلاع على أحدث تطوراتها التكنولوجية قدر المستطاع.
في هذا السياق، يهمني التركيز على مناهج البحث في المجال الأول، مجال الدراسات السينمائية ونظرية الفيلم، وليس في مجال تدريس ودراسة السينما كحرفة وفن. لقد حسمت الجامعات الغربية ومنها الجامعات الكندية التي درست بها أو عملت فيها في العشرين سنة الماضية، قضية التمييز مؤسسيا بين ما يسمى بقسم الدراسات السينمائية (Film Studies) وما يطلق عليه استسهالا قسم السينما (Cinema) وذلك من خلال تحديد مناهج التعلم والبحث العلمي المختصة بكل مجال، فيما تظل معظم أقسام السينما والدراسات السينمائية على اختلاف مناهجها وأهدافها تابعة لكليات الآداب والعلوم الإنسانية بصفة عامة.
ولكي ندرك أهمية التمييز بين المجالين النظري والحرفي، علينا أن نتفق أولا على عدد من المقدمات العامة الخاصة بمجال الدراسات السينمائية:
أولا: إن مجال الدراسات السينمائية مجال هجين، يستفيد من مناهج البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية على تنوعها وتباينها ولا يستقيم حال البحث في هذا المجال دون الاعتراف بأهمية وأسبقية المناهج الإنسانية والاجتماعية على مجال الدراسات السينمائية. بمعنى آخر لا سبيل للفصل بين مناهج الدراسات السينمائية وبين مناهج العلوم الأساسية مثل التاريخ، والأدب المقارن وعلوم السرد والعلامات، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس والعلوم السياسية والفلسفة والدراسات اللغوية والدراسات النسوية وما يماثلها. إذن فالدراسات السينمائية على اختلاف شعبها ومناهجها هي الأساس مجال هجين من الدراسات البينية تتعدد روافده وتتشعب فروعه بتعدد وتشعب العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ثانيا: يستعين مجال الدراسات السينمائية بمصطلحين رئيسيين هما "تحليل الخطاب" و"تحليل النص " ويعترف بما بينهما من
تقاطعات كثيرة وملتبسة. نستطيع القول بأن مناهج البحث المختصة بتحليل "الخطاب السينمائي" تختلف وتتقاطع مع مناهج البحث المختصة بتحليل "النص الفيلمي"، مع التمييز بين الصفتين: السينمائي والفيلمي، الأمر الذي يسمح للباحث بتحديد أولويات البحث ومصادره منذ البداية. فأما تحليل الخطاب السينمائي فهو معني بالضرورة بما هو أعم وأشمل في مجال صناعة السينما؛ أي بالسياق العام للإنتاج السينمائي بغض النظر عن تحليل مضمون المنتج النهائي أو الفيلم في ذاته. فيما يتعين على المهتم بتحليل النص الفيلمي التركيز على الفيلم بوصفه منطلقا رئيسيا لفهم مضمون وجماليات الفيلم وتحليل شفرة النص ومدلولاته المختلفة في سياقها السردي والبنيوي والنفسي والاجتماعي وما إلى ذلك. مع الأخذ في الاعتبار أن الحدود بين تحليل الخطاب وتحليل النص ليست صارمة بأية حال من الأحوال، بل هي حدود منهجية يجدر بالباحث الحر أن يتجاوزها في مراحل بحثه المتقدمة وصولا إلى نتائج أكثر انفتاحا وأكثر تعقيدا تعتمد على أدوات التحليل بشقيه السينمائي والفيلمي.
ثالثا: انطلاقا مما سبق، على الباحث أن يميز بين مناهج البحث في الدراسات السينمائية وما يسمى بشكل أكثر تحديدا "نظرية الفيلم ". فالمناهج السينمائية تستفيد من مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية كما أسلفنا من منظور تاريخي أو اجتماعي أو أدبي أو بيني مقارن (يجمع بين مناهج متعددة). أما نظرية الفيلم فهي جوهر الدراسات السينمائية ذاتها وتعنى
بالتناول النظري لموضوع البحث ومادته الفيلمية وتختلف عن "النقد السينمائي" و" تاريخ السينما" كونها تتأسس على مفاهيم فلسفية مجردة. ترتبط نظرية الفيلم إذن بمفاهيم عامة يتناولها الباحث من منطلق نظري، على سبيل المثال يهتم الباحث في مجال نظرية الفيلم بمفاهيم مثل التمثيل أو التشخيص (representation) وفقا للنظرية الماركسية أو وفقا لعلم العلامات، أو بإشكالية النوع السينمائي من منظور علم الجمال، أو بالعلاقة الجدلية بين الواقع والخيال من منظور تفكيكي ...إلخ. ويجدر بالباحث في مجال الدراسات السينمائية أن يكون ملما بشكل عام بنظرية الفيلم وان يؤسس بحثه بشكل منهجي مستعينا بأدوات المناهج المختلفة المتاحة لديه كما سنفصل فيما بعد، مع الاهتمام دوما بالبعد النظري والفلسفي في تناوله لموضوع البحث.
رابعا: تعنى الدراسات السينمائية بثلاث شعب رئيسة: تاريخ السينما، النقد السينمائي، ونظرية الفيلم. والمهم هنا أن يميز الباحث بين أهداف وأدوات تاريخ السينما والنقد السينمائي من ناحية وبين ما نطلق عليه نظرية الفيلم من ناحية أخرى. فالإلمام بنظرية الفيلم يعد درجة أعقد من درجات التناول والتنظير للسينما بوصفها خطابا فنيا وجماليا. أما النقد السينمائي فمعني بأدوات إنتاج الفيلم وعناصره وتجلياته الكلية ومدلولاته الاجتماعية والفكرية والسياسية العامة وقدرته على توصيل رسالة أو مجموعة من الرسائل للمتفرج وينشغل بتقديم تحليل عام للفيلم ينبني عليه تقييم العمل الفني في مجمله وهدفه في المجمل هو إبلاغ رسالة الفيلم (أو رسائله المتعددة) لمتلق غير متخصص. في المقابل، تهتم نظرية الفيلم بالتحليل الفيلمي المفصل والمتعمق، وتتوقف عند التفاصيل الصغيرة في الفيلم وتنشغل بتحليل عملية إنتاج المعنى ومستوياتها المختلفة ويكون ناتجها النهائي هو التحليل الدقيق لمشهد أو مجموعة من المشاهد وصولا لكشف شفرة النص وقانونه الكلي، وعادة ما يستغرق التحليل النظري في التفاصيل وصولا لمفاهيم متخصصة يكون من الصعب نشرها على نطاق واسع أو توجيهها لمتلق غير متخصص. تقوم نظرية الفيلم في جوهرها على التحليل والمقارنة وخلق شبكة من العلاقات بين النصوص الفيلمية والسياقات التاريخية والاجتماعية والنفسية التي تندرج فيها وتتفاعل معها وتسعى لتغييرها وصولا لفهم متعمق لمغزى النص وجوهره الفلسفي.
بشكل عام، تمثل الشعب الثلاث: التاريخ والنقد ونظرية الفيلم، الأساس الذي تنبني عليه الدراسات السينمائية في الجامعات الغربية، ويهدف لتخريج مؤرخين سينمائيين ملمين بأصول كتابة تاريخ السينما، ونقاد سينما يمتلكون أدوات التحليل السينمائي ويبتعدون قدر المستطاع عن النقد الانطباعي في شكله الصحفي أكثر رواجا، وباحثين جامعيين جادين يسعون إلى فتح أفاق جديدة في مجال نظرية الفيلم. مما لا شك فيه هناك تقاطعات كثيرة بين الشعب الثلاث في إطار الممارسة العملية، وخاصة في أقسام الدراسات السينمائية في الجامعات الأوروبية والأمريكية، وإن جرت العادة على تخصيص سنوات الدراسة الأولى لدراسة تاريخ السينما العالمية والتحليل النقدي للأفلام، وتخصيص السنة الرابعة لدراسة نظرية الفيلم. إجمالا، يضم مجال الدراسات السينمائية في الغرب أعدادا غفيرة من الطلاب الجامعيين في مراحل الدراسة الأولى وطلابا في الدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه) في مراحل متقدمة من البحث كما يضم مجموعات بحثية متنوعة وغزيرة الإنتاج وجمعيات محلية ودولية للدراسات السينمائية ومجلات علمية في مجالات البحث السينمائي كافة تسعى لمواكبة كل جديد في نظريات العلوم ا لإنسانية والاجتماعية وربطه بالسينما.
ولكن، على الرغم من وجود أقسام متخصصة وجمعيات علمية ودور نشر جامعية تصدر عشرات المطبوعات أكاديمية المعنية بالدراسات السينمائية سنويا من كتب ودوريات علمية، فإننا لا نجد ضمن هذا الكم الهائل من المطبوعات كتابا (على الأقل بالإنجليزية أو الفرنسية) يفصل مناهج وأدوات البحث في مجال الدراسات السينمائية، كما هو الحال في مجال الدراسات الاجتماعية ومجال علم النفس والأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم. ربما يرجع ذلك إلى تنوع المصادر المنهجية في هذا المجال الهجين وتعدد أدوات البحث المستخدمة بتعدد المناهج. نجد مثلا أن الكتب المعنية بتقديم الدراسات السينمائية (1) تضم في الغالب الأعم سلسلة من الدراسات المتفرقة عن السرد في السينما والأنواع السينمائية ومدارس السينما العالمية والقضايا النظرية في مجال الدراسات السينمائية دون ترتيب تاريخي أو منهجي، ودون سعي حقيقي من قبل الباحثين لتأريخ وتعيين وتقييم مناهج البحث في هذا المجال بشكل أكثر تدقيقا.
فيما يلي، سأحاول تفصيل العديد من مناهج البحث المستخدمة في مجال الدراسات السينمائية، مع ملاحظة أن بعضها نشأ في أوروبا وأمريكا في نهاية العشرينيات والبعض الآخر حديث أو معاصر، كما سأحاول ا لإشارة إلى عدد من أمهات الكتب والمراجع العلمية التي لا يستقيم البحث في نظرية الفيلم دون الاطلاع عليها والإلمام بها. وسيلاحظ القارئ أن الكثير من هذه الكتب الأساسية والمؤسسة لم يترجم إلى العربية بعد، وتلك في ذاتها عقبة تقف عائقا أمام البحث باللغة العربية في مجال الإنسانيات بصفة عامة وفي مجال الدراسات السينمائية بصفة خاصة، ناهيك عن غياب الدعم المؤسسي لمجال الدراسات السينمائية من خلال الجامعات والمطبوعات العلمية في عالمنا العربي على اتساعه! فيما يلي سأقوم باستعراض سبعة مناهج بترتيب ذيوعها وانتشارها في أوساط النقد السينمائي ونظرية الفيلم بغض النظر عن تاريخ نشأتها أو تدريسها وإدراجها ضمن مناهج البحث في الجامعات والمعاهد المتخصصة.

1-تاريخ السينما، السينما والتاريخ: جورج سادول ومارك فيرو

History of Cinema / Cinema and History: Georges Sadoul and Marc Ferro
هذا المنهج هو الأكثر شيوعا في مجال الدراسات السينمائية ويعنى بتيارين أساسيين: الأول: هو كتابة تاريخ السينما (سواء ما يسمى بالسينما القومية أو الوطنية مثل السينما الأمريكية أو البريطانية أو المصرية) أو كتابة تاريخ الأنواع في السينما (مثل الميلودراما أو الفيلم الكوميدي أو أفلام الكاوبوي وما إلى ذلك) أو كتابة سير المخرجين ومشاهير السينما من منظور تاريخي -اجتماعي. وكما هو الحال في مناهج دراسة التاريخ، يعتمد المؤرخ السينمائي على وثائق مكتوبة وأخرى سمعية بصرية في كتابة تاريخ السينما، ولكنها في الغالب الأعم تعاني من النقصان والتشويه، لذا يلتزم المؤرخ الدقة قدر الإمكان ويتعامل مع الوثائق بحذر وحيطة يكفلان مساحة من النقد تسمح له بالتأويل وإعادة الاكتشاف. هكذا نجد أن كتابة تاريخ السينما يظل أبعد ما يكون عن الأحكام المطلقة والنتائج القاطعة على عكس ما هو شائع في الأذهان ويعترف هذا المبحث بحدوده المنهجية كونه يعتمد على أرشيف غير مكتمل وعلى تفاسير وآراء قد لا تكون بالضرورة صائبة.
في فرنسا يعد جورج سادول أحد أهم المؤرخين المعنيين بكتابة تاريخ السينما العالمية، ورائدا من رواد النقد السينمائي فقد نشر منذ نهاية الأربعينيات كتابا مؤسسا يرفع الفن السينمائي لمصاف الفنون الكبرى ويؤرخ له ليس فقط في أوروبا وإنما أيضا في إفريقيا وآسيا وأمريكا، وقد ظل يضيف إليه في طبعات لاحقة نتاج جولاته للتعرف على تيارات السينما القومية حول العالم ومن بينها السينما العربية. نشر كتاب " تاريخ السينما العام " في ستة أجزاء بين عامي 1946 و 1954 كما كتب سادول "حياة شارلي" عام 1952 و"جورج ميلييس" عام 1961 وأصدر "قاموس الأفلام" و"قاموس السينمائيين" عام 1965. تنطلق كتابات جورج سادول من منظور ماركسي في الأعم، وكان متأثرا بالستالينية تأثرا كبيرا أصاب الكثير من كتابته عن السينما بشوائب أيديولوجية قيل إنه تراجع عنها في أواخر حياته، وقد انتقد سعيه لتفكيك أفكاره في نهاية الخمسينيات وفي الستينيات الناقد والمؤرخ الفرنسي الشهير أندريه بازان. في المقابل في مصر نجد محاولة يتيمة تبناها الناقد والمؤرخ أحمد الحضري الذي أخذ على عاتقه كتابة تاريخ السينما المصرية لكنه لم يكمل ما بدأه وتوقف عند سنة 1930.
أما المنهج الثاني الموازي والمكمل لتاريخ السينما هو منهج يؤسس للعلاقة بين السينما والتاريخ ويعتبر أن الفيلم وثيقة تاريخية يستدل منها على تاريخ أمة أو شعب أو حقبة زمنية محددة، ويمثل هذا التيار في فرنسا المؤرخ مارك فيرو، صاحب كتاب "السينما والتاريخ" (1977) وكتاب "السينما، رؤية التاريخ" (2003). يقول فيرو في مقدمة كتابه الأول الذي يضم مجموعة من المقالات التحليلية عن علاقة السينما بالتاريخ: "بين السينما والتاريخ تقاطعات عديدة: تتقاطع السينما مع التاريخ أثناء حدوثه، ومع التاريخ بوصفه تقريرا عن زمننا الحالي، أو بوصفه شرحا توضيحيا لصيرورة المجتمعات. في الأحوال
كافة، تتدخل السينما في التاريخ (2). هكذا يؤكد فيرو أن السينما فاعل تاريخي ويدلل على ذلك بكونها في بدايات نشأتها أداة للتطور العلمي ثم أصبحت أداة دعاية وتعليم وتوعية، ويعتبر أن لها لغتها الخاصة التي تتطرق لمناطق واعية أو غير واعية تكشف عن مواقف أيديولوجية أو اجتماعية معاصرة، ويراها أيضا ساحة للصراع التاريخي والفكري بين مجموعات متباينة في المجتمع الواحد أو شعوب مختلفة على مستوى العالم. يتناول فيرو في كتابه بعض الأفلام التي تركت بصمة في تاريخ السينما العالمية مثل فيلم ايزنشتين "المدرعة بوتمكين " وفيلم رينيه كلير "لنا الحرية" بوصفهما نموذجين لا للفيلم التاريخي بالضرورة ولكن للفيلم الفاعل في التاريخ بالأساس، الذي يقرأ الأحداث ويعلق عليها ويغير في المفاهيم ويؤثر على التلقي.
أدوات هذا المنهج هي إذن أدوات التأريخ والتحليل التاريخي والاجتماعي بما تتميز به من دقة وبحث مضن في الوثائق ومقارنة المصادر والمراجع ومضاهاة النتائج بما يتفق والمعارف الأخرى المستقاة من التاريخ السياسي والاجتماعي. أما مصادر هذا المنهج فتعتمد بالأساس على الأرشيف المؤسسي أو الأرشيف الخاص بالسينمائيين وأصحاب المهنة، والمكتبات المتخصصة وخاصة مكتبات الدوريات، التي تتيح للمؤرخ الاطلاع على الأصول وخلق العلاقات والوصول إلى نتائج موثقة علميا ومنهجيا، فضلا عن تحليل نماذج من الأفلام من منظور تاريخي واجتماعي يسمح بكشف العلاقة بين السينما والزمن
الماضي والحاضر ويسعى، كما يقول مارك فيرو، إلى تكهن المستقبل.

2-علم اجتماع الفيلم: إيان جارفي وايمانويل إتيس

Sociology of Film: Ian Jarvie and Emmanuel Ethis
يعتني هذا المنهج بالعلاقات الوثيقة بين السينما بوصفه فنا ووبومؤسسة ثقافية وبين المجتمع بأفراده وجماعاته، وذلك من منظور مناهج علم الاجتماع وعلم الاجتماع النفسي والأنثروبولوجيا، ويتعامل مع فكرة النوع السينمائي من منظور الجماعة ببعديها الحضاري والثقافي، كما يتناول حياة الشخصيات والعلاقات الإنسانية في العمل السينمائي من وجهة نظر اجتماعية، ويحلل علاقة الفيلم بالجمهور وبقضايا التلقي السينمائي. يمثل هذا المنهج المفكر البريطاني -الكندي إيان جارفي وأستاذ الدراسات الاجتماعية والإعلام الفرنسي إيمانويل إتيس. في مراحل سابقة على كتابات جارفي وإتيس، نجد أسماء بارزة خاضت تجارب مشابهة في الكتابة عن السينما وساهمت بدور فعال في تأسيس منهج علم اجتماع السينما وعلى رأسهم المفكر الفرنسي ادجار موران (صاحب كتاب "السينما والإنسان المتخيل" الصادر عام 1956) والناقد الألماني سيجفريد كراكوير (صاحب كتاب "من كالجاري لهتلر: التاريخ النفسي للسينما الألمانية " الصادر عام 1973) وإن تبنى كل منهما منظورا مغايرا لدراسة العلاقة بين الفرد والمجتمع والسينما.
أما إيان جارفي فهو صاحب العديد من الكتب المهمة التي كان لها أكبر الأثر في ربط الدراسات السينمائية بالعلوم الاجتماعية خاصة في فترة السبعينيات وما تلاها، نذكر منها: "نحو علم اجتماع السينما" (1970) و" الأفلام أداة للنقد الاجتماعي" (1978) و"فلسفة الفيلم" (1987). يتناول جارفي في كتبه أربعة محاور رئيسية: من يصنع الأفلام ولماذا؟ من يشاهد الأفلام ولماذا؟ ماذا نرى في السينما ولماذا؟ كيف يتم تقييم العمل السينمائي ومن هم القائمون على هذا التقييم؟ ويعد من أوائل المنظرين في مجال الدراسات السينمائية الذين رفضوا فكرة أن السينما وسيلة إعلامية هدفها التأثير على متلقي سلبي لا يفكر ولا يتفاعل فكريا مع الخطاب السينمائي، إذ يرى جارفي على العكس من ذلك أن المتلقي جزء من جماعة وأن علاقة التأثير والتأثر هي في الحقيقة علاقة جدلية دائرية بين منتج الرسالة السينمائية ومتلقيها وكلاهما يشارك في صنع المعنى وفي تحديد مضمون الفيلم.
يهتم جارفي في كتابه "الأفلام أداة للنقد الاجتماعي" بخمسة نقاط يعتبرها أساسية لفهم تأثير السينما على المجتمع الأمريكي، فيناقش تهمة التأثير السلبي للسينما على المجتمع ويرفضها ويتجاوزها للتأكيد على وظيفة الفن السينمائي التعليمية والتربوية. ثم يتناول بالتحليل عددا من الأفلام التجارية التي ناقشت علاقات الزواج والطلاق في المجتمع الأمريكي ويراها وثيقة اجتماعية كان لها أكبر الأثر على نظرة المجتمع الأمريكي إلى الروابط الأسرية. ثم يتطرق للعلاقة بين الجمهور وبين السينما ويناقش بعض الأفكار المسبقة التي ترى أن الفن السابع يشجع على الهروب من مشكلات الحياة اليومية، على الرغم من أن السينما في رايه كانت ومازالت تحتفي بقيم الواقعية والنقد الاجتماعي. ويخلص إلى أن السينما، على النقيض من التلفزيون، هي أداة للنقد والتحليل رغم اعترافه في نهاية الكتاب بأنها لم تتمكن من التصدي بجدية لكثير من مشكلات المجتمع الأمريكي، بل على العكس ساهمت في أحيان كثيرة في ترسيخ عادات وقيم اجتماعية سالبة منها مثلا العنصرية العرقية ضد السود الأمريكيين، الذين تم تقديمهم على مدار عقود طويلة بشكل نمطي عادة ما يكون سلبيا أيضا في السينما الأمريكية.
في هذا السياق نفسه، اهتم إيمانويل إتيس بما يسمى "علم الاجتماع الثقافي " وخاصة وسائل التلقي والتواصل الاجتماعي عبر الوسيط السينمائي، ويعتبر كتابه الأشهر "علم اجتماع السينما والجمهور السينمائي" (2005) أحد أبرز الكتب في هذا المجال، ويتناول فيه بالتحليل عادات وتوقعات رواد المهرجانات السينمائية وبخاصة مهرجان كان السينمائي في فرنسا ويقارنهم برواد مهرجان أفينيون المسرحي.
يتكون الكتاب من أربعة فصول تتناول السينما باعتبارها فنا "شعبيا" وتحلل العلاقة بين السينما والمدينة من خلال دراسة وتقييم دور العرض السينمائي، وأساليب العرض العام والرقابة ودوافعها. ينتهي الكتاب بتحليل التلقي السينمائي مع التركيز
على دراسة الثقافة السينمائية في فرنسا تحديدا حيث نما تيار "السيني -فيليا" أو الولع بالسينما منذ ثلاثينيات القرن العشرين واستمر فيما بعد على نطاق أوسع ليخلق ما يشبه الهوية المتخيلة لرواد ومحبي السينما وعشاقها.
إجمالا، ينطلق إتيس من واقع الفرجة باعتباره ممارسة اجتماعية ليؤسس تيارا قويا في سياق العلوم الاجتماعية يسعى إلى فهم البعد الاجتماعي للسينما وآليات التلقي. ويشير إتيس في مقدمة كتابه إلى اهتمام علم اجتماع السينما بثلاث تيارات أساسية: دراسة السينما من منظور اقتصادي واجتماعي باعتبارها صناعة ثقافية، دراسة كيفية تناول السينما للواقع الاجتماعي، ودراسة السينما باعتبارها مؤسسة ثقافية تتفاعل فيها سبل ووسائل الإنتاج السينمائي مع أساليب التلقي الاجتماعي والفني وهو ما اعتنى إيان جارفي أيضا بتأسيسه في السبعينيات من القرن العشرين. هذه التيارات الثلاث هي في جوهرها أهم تيارات علم اجتماع السينما اليوم، وتستقي أدواتها من علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، ومن الدراسات الثقافية (Cultural studies) فضلا عن مناهج البحث في مجال الدراسات البينية والمقارنة.

3-علم السرد السينمائي: سيمور تشاتمان

Narratology of Film: Seymour Chatman
يهتم هذا المنهج بطرق السرد السينمائي ويستقي من علم السرد في الأدب ملامحه الرئيسة حيث نجد في مجال تحليل النص الفيلمي اهتماما بطرق الحكي والعرض، وتحديد وجهة النظر من المنظور السينمائي، وتمثيل الزمان والمكان الفيلمي، والوظائف السردية لعمليات المونتاج وتركيب الصوت، فضلا عن الاهتمام بالصورة كعلامة أو كأيقونة تشارك في صنع التيمات الرئيسية في الفيلم وفي تطوير الحبكة. وقد كتب العديد من المنظرين في هذا المجال وبخاصة منذ سبعينيات القرن العشرين، نذكر من بينهم الناقدين الفرنسيين: اندريه جاردي وفرانسيس فانوا (وكلاهما له العديد من الإسهامات الأكاديمية في تحليل بنية القصة السينمائية والمكان السينمائي) والناقد الأمريكي سيمور تشاتمان (صاحب كتاب "القصة والخطاب: بنية الحكي في الرواية والفيلم" الصادر عام 197، وكتاب "فصل القول: بلاغة السرد في الأدب والسينما" الصادر عام 1990).
يتناول تشاتمان في كتابه الأخير قضايا السرد الأدبي والفيلمي ويحلل التقاطعات بين الوسيطين من حيث استخدام الحبكة الدرامية والوصف والاستعانة بالراوي سواء الظاهر أو المضمر، والسعي للإقناع والتشويق، إلخ. في المجمل يظل هدفه الأول في هذا الكتاب هو فهم آليات الحكي والسرد عبر وسائط متعددة وفهم خصوصية كل وسيط من خلال التركيز على البنى التحتية المؤسسة لعملية السرد، يقول في مقدمة كتابه: "وحده علم السرد العام باستطاعته أن يسهم في شرح القاسم المشترك الذي يجمع بين الأدب والسينما من وجهة نظر سردية، وفهم هذا القاسم المشترك في المقابل هو ما يتيح لنا التمييز بين الأدب والسينما" (3). يستعين تشاتمان في ذلك بمفهوم "بلاغة التخييل" عند الناقد الأمريكي وين بوث كما يناقش كتابات
تيري ايجلتون في مجال نظرية الأدب ويعارضها من خلال تفكيك بعض الأفكار المسبقة مثل تفوق السرد على الوصف في القصة الأدبية والسينمائية مؤكدا أن تنوع أنماط الكتابة السردية وغير السردية (مثل الوصف) يسمح بالتحاور والتجاور بينها. ويخصص تشاتمان فصلا كاملا لآليات الوصف السينمائي مؤكدا على ثرائها البصري في مقابل فقرها في الحوار. ثم يحلل في فصلين متعاقبين الفرق بين الراوي الأدبي والراوي السينمائي مشيرا إلى أهمية "المنظور" وإلى أشكال الاقتباس الناجحة، نافيا مبدأ التطابق والإخلاص في ترجمة النص الأدبي سينمائيا، داعيا للتفكير في عملية الاقتباس من وجهة نظر سردية، فنجده يتساءل على سبيل المثال عن دور الراوية في العمل الأدبي وكيفية التعبير عنه وتحويله لصورة سينمائية.
إجمالا، سنجد أن أدوات علم السرد السينمائي لا تختلف بشكل جذري وحاسم عن أدوات علم السرد الأدبي، كما نجد أن المحاور والقضايا الكبرى التي تأسست عليها نظرية السرد في الأدب تتجدد وتتشابك مع محاور وقضايا نظرية السرد في السينما: العلاقة بين الفيلم والمخرج، خصائص الزمان والمكان السينمائي، جماليات التركيب والتوليف والتتابع، دور الراوية والمنظور، إلخ. في الغالب الأعم، تكون قضية الاقتباس هي القاسم المشترك الذي يجمع بين التحليل الأدبي والتحليل السينمائي من منظور مقارن باستخدام الأدوات والمصطلحات نفسها التي وردت في نظرية الأدب على شمولها وتنوعها.

4-علم الجمال أو استطيقا السينما: جان ميتري

Aesthetics of Film: Jean Mitry
يعنى هذا المنهج بجماليات الفيلم وتقنيات الإبداع السينمائي ويندرج تحته تحليل النص السينمائي من منظور جمالي والتفرقة بين الفيلم بوصفه سلعة للترفيه والفرجة وبين الفيلم نصا ذي أبعاد فنية متعددة ومتقاطعة مع جماليات الفن التشكيلي والموسيقى والأدب وغيرها من الفنون. يعالج الناقد الفرنسي الشهير جان ميتري في كتابه من جزئين "استطيقا وعلم نفس السينما" (1963 و1965) العلاقة بين التيارات المثالية والواقعية التي تناولتها نظرية الفيلم ويستعين بمناهج البحث في مجال اللغويات والسيميولوجيا وعلم النفس لتقديم نظرية غير مسبوقة في مجال التأويل السينمائي. يهتم ميتري على سبيل المثال، بنقد فكرة أن السينما لغة على غرار اللغة المنطوقة والمكتوبة، ويدافع عن مبدا قوامه أن أشكال التعبير السينمائي تعتمد بالأساس على الإدراك النفسي وظواهر الوعي، وأنها تعطي انطباعا بالواقع ولا تمثل الواقع بحال من الأحوال؛ فيقول: "إن سحر السينما الجوهري يكمن في أن "المعطى الواقعي" فيها هو في ذاته عنصر التخييل" (4). متحديا بذلك أفكارا جاهزة نادت بأن السينما مرآة الواقع أو أنها ترجمة حرفية له.
يتناول كتاب جان ميتري عددا هائلا من قضايا نظرية السينما التي حفلت بها كتابات النقاد والأكاديميين الفرنسيين حتى ستينيات القرن العشرين ويتحاور معها فاتحا آفاقا جديدة للنقد الجمالي والتقني لفن السينما. من بين تلك القضايا الاختلاف بين جماليات الفيلم وجماليات التصوير الفوتوغرافي والفن التشكيلي، وموقع وأهمية تصوير الأشياء والأدوات في السينما ومعناها الرمزي والجمالي، وأهمية تفتيت أسطورة السينما الخالصة باعتبارها فنا لا ينفصل عن الأنواع الفنية الأخرى، كما يناقش أشكال السرد السينمائي وجمالياته المرتبطة بتكوين الكادر وأنماط المونتاج وحركة الكاميرا ومغزاها وحركة الشخصيات ودوافعها، ويحلل جماليات الحذف في السينما وحجم اللقطات ومعناها وتقنيات الفلاش باك ودلالاته والفرق بين عمق الصورة وتصوير العمق، ويقارن بين الفيلم الروائي والفيلم الشعري، وينتصر لفكرة اعتبرت ثورية في تلك الآونة وهي أن السينما ليست لغة مثل الكلام، بل هي أداة تواصل، مشيرا إلى أن الكلمة في اللغة علامة، أما الصورة في لغة الفيلم فعلامة في طريقها لتصبح مركبة من علامات متعددة.
يبقى أن أهم ما يميز هذا العمل المؤسس عن السينما ودلالاتها الفنية والنفسية عنايته بتفكيك العديد من المفاهيم السطحية عن السينما خاصة في علاقتها بالواقع ونظرته الموسوعية التي شملت نماذج من أفلام عالمية من بدايات السينما حتى الستينيات فضلا عن إشاراته إلى الفنون الأخرى من تصوير وتشكيل وموسيقى، وإفادته من أدوات التحليل النفسي في فهم جماليات السينما مع الاستعانة بالمصادر المعرفية الأخرى من منظور إبستمولوجي لبناء منهج تأويلي هجين لا يميز بين المضمون والشكل، بل يجمع بينهما في علاقة جدلية شديدة الثراء. ولا شك أن لهذا المفكر السينمائي الأصيل أكبر الأثر على مناهج البحث في الدراسات السينمائية وبالتحديد فيما يخص علم العلامات وفلسفة السينما.

5-علم العلامات في السينما: كريستيان متر

Semiology of Cinema: Christian Metz
هل السينما لغة وأداة تواصل؟ وما هي ماهية "العلامة" السينمائية؟ هل الصورة معادل للكلمة في اللغة؟ كيف تشكل العلاقة بين الدال والمدلول في السينما؟ وهل يمكننا الحديث عن بلاغة سينمائية على غرار البلاغة الأدبية؟ وكيف يتم إنتاج وإدراك أو تلقي أشكال الاستعارة والمجاز والكناية في السينما؟ تنبني كل هذه الأسئلة وغيرها في مجال الدراسات السينمائية
على كتابات فرديناد دو سوسور عالم اللسانيات السويسري الشهير وأحد أهم مؤسسي علم العلامات. وقد تناولها الناقد والمفكر الفرنسي كريستيان متز في عدد من الكتب الأكاديمية البارزة من بينها "مقالات عن الدلالة في السينما" الصادر عام 1968 وكتاب "اللغة والسينما" الصادر عام 1971، وكتاب "الدال المتخيل" الصادر عام 1978 احتلت كتابات كريستيان متز موقع الصدارة في سبعينيات القرن العشرين وكانت بمثابة ثورة ضد الأيديولوجيات التي سيطرت على نظرية الفيلم سواء في علاقتها بالتاريخ والمجتمع أو في علاقتها بالأدب وبالنظرية الأدبية. ووجه متز، وهو الأستاذ المرموق في مدرسة "الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية "، بالعديد من الانتقادات من قبل تيارات النقد السينمائي الرافض لطرق وأدوات التحليل البراجماتية، ويعد الناقد والمفكر جان ميتري أبرز من انتقدوا منهج متز في التحليل السينمائي وذلك في كتاب ميتري " السيميولوجيا في الميزان " الذي صدر عام 1987.
يهتم منهج علم العلامات بعدد من القضايا المهمة في مجال التحليل السينمائي، أبرزها قضية العلاقة بين اللغة والعلامة والشفرة في السينما. وخلاصة القول في هذا المجال هو أن شريط الصورة وشريط الصوت يشكلان في ذاتهما كوكبة من العلامات المتداخلة، تقوم بينها شبكة معقدة من العلاقات، لكل منها شفرة أو عدد من الشفرات ولكل منها معان كامنة وأخرى ظاهرة، كما أن مادة التعبير في السينما متعددة ومركبة وعلى الباحث أن يفككها ويعيد تركيبها لكي يدرك كيف يتناول المخرج حكاية ما، أو قضية بعينها. قضية خلافية أخرى أثارت الكثير من النقاش في كتابات متز هي قضية العلاقة
بين محور الاختيار أو الانتقاء ومحور التركيب أو التتابع في السينما وإن كانت تلك الثنائية قد باتت اليوم متوافق عليها إلى حد بعيد. يتساءل متز: كيف يتم اختيار مادة الصورة ؟ وكيف ينتقي المخرج ما يدخل في الكادر وما يترك خارجه؟ وما تأثير هذا الاختيار على دلالات اللقطة أو المشهد؟ ما مدلول الحركة في السينما، وما الفرق بين دلالة حركة الشخصيات داخل الكادر ودلالة حركة الكاميرا؟ كل هذه الأسئلة المهمة والحيوية لفهم وتحليل الدال والمدلول في السينما أرقت عددا من الباحثين الأكاديميين في هذا المجال، خاصة في فرنسا، نذكر من أهمهم: يوري لوتمان وباسكال بونيتزر وريمون بيلور.
وعلى الرغم من انتشار هذا المنهج في سبعينيات القرن العشرين وسيطرته زمنا على ساحة النقد في الأوساط أكاديمية، فإن تأثيره النقدي في فرنسا ما لبث أن خفت ليبرز بشكل لافت لاحقا -في العالم الأنجلو-ساكسوني. يشير كريستيان متز في حوار أجراه معه أندريه جاردي ونشر في مجلة "سينماكسيون" (5) عام 1991 إلى أن نقاد مجلة "كراسات السينما" الشهيرة قد تأثروا زمنا بمنهج السيميولوجيا في التحليل السينمائي فأنهم ما لبثوا أن تخلوا عنه ولم يتبق من أثره سوى بعض المصطلحات العامة والمفاهيم البسيطة. في المقابل أثبت المنهج حضوره بدرجة هائلة في الدوريات الأكاديمية الإنجليزية مثل "سكرين" التي تصدر عن جامعة أكسفورد و"كاميرا اوبسكورا" التي تصدر عن جامعة ديوك الأمريكية. والحال أن علم العلامات من التعقيد بحيث أن الكثير من النقاد والباحثين يتخوفون من استخدامه لفهم وتحليل الأفلام فضلا عن أنه في ذاته منهج بيني هجين، يجمع بين علم اللسان وبين التحليل النفسي (وخاصة مدرسة لاكان التي استعان بها كريستيان متز في كتاباته) ويصارع من أجل أثبات قدرته على قراءة الفيلم قراءة شكلانية ونفسية معا، ذهنية وعاطفية في آن.

6-السينما والدراسات النسوية: لورا مالفي

Feminist Film Theory: Laura Mulvey
يعنى هذا المنهج البيني، مثله مثل علم العلامات في السينما، بعدد من المفاهيم الدالة في مجال سيميولوجيا الفيلم والتحليل النفسي، ويتناولها من منظور نسوي تطبيقي في نقد وتحليل النصوص السينمائية. المفهوم الأول والأهم هو: مفهوم النظرة الذكورية (Male gaze) والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالأبوية الرأسمالية في المجتمعات الغربية وخاصة في السينما الأمريكية الكلاسيكية وفي العديد من السينمائيات الأوروبية القومية وهو مفهوم يعتني بتحليل نظرة الرجل إلى المرأة بوصفه صانع أفلام أو وتأثير تلك النظرة على صورة المرأة في السينما.
المفهوم الثاني: هو مفهوم القوة الفاعلة (agency) التي تعد سلاخ المرأة في التعبير عن نفسها سواء بوصفها شخصية فاعلة في السرد الفيلمي أو مخرجة أو متفرجا في الواقع المعيش. تمثل هذا المنهج الناقدة البريطانية لورا مالفي صاحبة المقال الأشهر والمؤسس في هذا المجال، " اللذة البصرية والسينما الروائية " الذي نشر عام 1975 في مجلة "سكرين"، كما تمثله باحثات نسويات أخريات من بينهن: تيريزا دي لوريتيس، وماري آن دوان، وإيلا شوحاط. تناولت لورا مالفي بالنقد عددا
من مقولات التحليل النفسي لدي فرويد ولاكان، وطبقتها على تشخيص النساء في السينما الأمريكية الكلاسيكية، ورأت أن المرأة لم تتعد كونها موضوعا للرغبة الذكورية object of desire يؤدي إلى إنتاج نوع من اللذة البصرية، خاصة في السينما الروائية الموجهة بالأساس للاستهلاك الذكوري.
تتناول مالفي في كتابها " المتع البصرية وغيرها" الصادر عام 1989 قضايا متنوعة تخص النظرية النسوية في مجال السينما، من أهمها تحليلها للميلودراما في السينما الأمريكية، خاصة في أعمال المخرج دوجلاس سيرك، وفي السينما الفرنسية لدي جان لوك جودار، واستعادتها للعلاقة بين العناصر الأربعة الأولى التي وردت في مقال "اللذة البصرية والسينما الروائية ": هوليوود، التحليل النفسي، النظرية النسوية والطليعة. تقول في الفصل المخصص للسرد السينمائي: "تعتبر نظريات علم النفس ملائمة هنا باعتبارها سلاحا سياسيا، يبرهن على قدرة اللاوعي في المجتمع الأبوي على بناء الشكل الفيلمي". وتضيف "إن المرأة في الثقافة الذكورية تعتبر دالا على الآخر الذكر، خاضعا لنسق رمزي يستطيع الرجل في إطاره أن يعبر عن خيالاته ووساوسه من خلال سيطرته على اللغة بل ويفرض تلك الخيالات والوساوس على صورة المرأة الصامتة التي تظل مقيدة في موقعها، باعتبارها حاملة وليست صانعة للمعنى" (6). هكذا ترى مالفي أن المرأة يتم تقديمها بوصفها موضوعا للنظر الإيروسي وللفرجة خاصة في السينما التجارية حيث تكون المرأة في تلك الأثناء موضوعا سالبا فتي حين يكون الرجل موضوعا فاعلا بحكم قدرته على النظر والتقييم والتفاعل سواء بوصفه شخصية في الفيلم أو متفرجا في قاعة العرض. تتناول مالفي في هذا الكتاب مخاوف وهلاوس وخيالات اللاوعي الذكوري وتحلل مدى تأثيرها على ترويج تصورات مغلوطة عن المرأة في السينما وفي فنون بصرية أخرى مثل النحت والتصوير الفوتوغرافي والفن التشكيلي. كما تخصص جزءا هاما للحديث عن طليعة السينما النسائية وصراعها من أجل المشاركة في مجال صناعة السينما في الماضي والحاضر.

7 -فلسفة الفيلم: جيل دولوز

Philosophy and Cinema: Gilles Deleuze
كما أسلفنا، تعتمد نظرية الفيلم على العديد من المفاهيم الفلسفية، مثل مفهوم الزمن والديمومة والصيرورة والحركة والحدس والإدراك وماهية الإبداع وغيرها من المفاهيم المستقرة في فلسفات ما وراء الطبيعة وفي أعمال الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون التي كان لها أكبر الأثر في دراسة وفهم ماهية السينما وقيمتها الفكرية والفلسفية. منذ بدايات السينما، احتفى النقاد والباحثين أكاديميين بكتابات فلاسفة اليونان واستخدموها لفهم وتحليل الأفلام، خاصة كتابات أرسطو عن التراجيديا والكوميديا، ونظرية الكهف عند أفلاطون التي استلهمها البعض للمقارنة بين الكهف بوصفها معادلا غيبيا ومقدسا والسينما بوصفها وسيطا روحانيا. لاحقا، استلهم النقاد والباحثون تيارات الفلسفة المعاصرة مثل الوجودية وفلسفة التأويل والإدراك والتفكيكية ونظريات ما بعد الحداثة لتحليل الأفلام وفهم أبعادها الفكرية والجمالية. في كافة الأحوال تبدو العلاقة وثيقة بين السينما والفلسفة وهي علاقة تقوم على التحاور والجدل والتجاوز والشك النقدي أكثر منها على صك المصطلحات وتعيين طرق ووسائل استخدامها وترسيخ دلالاتها بشكل مدرسي.
في هذا الإطار، يبرز اسم فيلسوف القرن العشرين جيل دولوز صاحب الكتاب الأشهر في فلسفة السينما، الذي صدر في جزئين تباعا عام 1983 وه 198: " سينما: 1 -الصورة -الحركة" و" سينما: 2-الصورة -الزمن". يمثل هذا الكتاب علامة فارقة في مجال الدراسات السينمائية وفيه يرتقي دولوز بفن السينما إلى مصاف الفنون العظمي، وبالمخرجين إلى مصاف المفكرين، وششعين بكتابات أرسطو وبرجسون وميرلو بونتي الفلسفية ليعيد كتابة تاريخ السينما من منظور فلسفة الحركة وفلسفة الزمن .يرى دولوز أن الصورة مفعل للحركة والحواس ويقسمها إلى عدة أقسام، وفقا لارتباطها بالإدراك أو الشعور أو الحدس أو الفعل، كما يقسم تاريخ السينما العالمية لتيارات ثلاث: هي التيار الواقعي، والتيار الطبيعي، والتيار الحديث، ويقوم في كل تيار بمقارنة أفلام من دول مختلفة ضاربا بفكرة السينما الوطنية أو القومية عرض الحائط حيث يضع جنبا إلى جنب مخرجين وأفلاما من أصول وأزمنة متباينة بحثا عن القاسم الفكري والنظري المشترك بينهم.
يقول دولوز في مقدمة كتابه "السينما: 1 -الصورة -الحركة": "ليست هذه الدراسة تاريخا للسينما، بل هي تصنيف، محاولة لتصنيف الصور والعلامات ". ثم يضيف: "يبدو لنا أن كبار المؤلفين السينمائيين يتقاربون ليس فقط مع المصورين التشكيليين والمعماريين والموسيقيين ولكن أيضا مع المفكرين. إنهم يفكرون باستخدام صور -حركة وصور -زمن، بدلا من المفاهيم. ونسبة الفشل العظمي في مجال الإنتاج السينمائي ليست معيارا للمعارضة، وليست أسوأ حالا مما هي عليه في مجالات أخرى على الرغم من عواقبها الاقتصادية والصناعية الوخيمة بما لا يدع مجالا للمقارنة. الفرق هو أن كبار المؤلفين السينمائيين أكثر تعرضا للهجوم، بحيث يسهل عادة منعهم من مزاولة مهنتهم. وتاريخ السينما كشف حافل بالشهداء. غير أن السينما جزء لا يتجزأ من تاريخ الفن والفكر، بأشكالها المستقلة بذاتها التي لا بديل لها، والتي تمكن هؤلاء المؤلفين من ابتكارها وتمريرها رغم كل شيء" (7).
في دراسته الفريدة هذه، ينحو جيل دولوز نحو أكثر المفاهيم الفلسفية تعقيدا ويمررها بسلاسة وحنكة لفهم آليات إنتاج المعنى والفكرة في السينما. يدرس، على سبيل المثال، علاقة اللقطة المقربة بصورة الوجه في السينما وكيف تنتج أثرا شعوريا طاغيا ومركبا هو مزيج من التفكير والشعور معا؛ فالوجه إما يفكر في أمر ما، أو يصدر شعورا ما للمتفرج. في هذا الإطار يقارن دولوز بين اللقطة المقربة أو المكبرة في أفلام المخرج الروسي ايزنشتين والمخرج الأمريكي جريفيث والمخرج الألماني كارل دراير متجاوزا مفهوم الحدود القومية من ناحية ومفهوم النوع السينمائي من ناحية أخرى. كما نجده يخصص فصلين للصورة
-الاكشن في أفلام الكاوبوي التي أخرجها جون فورد وهوارد هوكس بالمقارنة لأفلام شارلي شابلن وباستر كيتون الكوميدية. يظل الخيط المشترك في عملية المقارنة هو المفهوم الفلسفي الذي يتناوله دولوز بالتحليل والتنظير، مثلا مفهوم السلوك لدى ميرلو بونتي وعلاقته بهيستريا الحركة لدى شخصيات الكاوبوي أو الشخصيات الكوميدية في نوعية الأفلام موضوع البحث.
ختاما، يجدر بنا التنويه هنا إلى أننا لم نتمكن من استعراض مناهج البحث المعتمدة كافة في مجال الدراسات السينمائية على مستوى العالم، فقد استقر الاختيار على استعراض المناهج الأكثر انتشارا وتقديم عدد محدود من النقاد والأكاديميين الناطقين بالفرنسية والإنجليزية تحديدا، والذين كان لهم أكبر الأثر في تشكيل الوعي النقدي بقضايا السينما وتياراتها المتنوعة. لذلك أسقطنا من البحث عددا من النظريات المهمة والمجددة في مجال الدراسات السينمائية مثل نظريات الأنثروبولوجيا البصرية وعلاقتها بالسينما كمنتج وطقس جماعي خاصة في دول إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ودراسات الإعلام والميديا الجديدة والديجيتال ميديا وعلاقتها بالتطور التقني للفن السينمائي، والدراسات ما بعد الكولونيالية في تطبيقاتها العملية على ما كان يسمي حتى الماضي القريب "سينما العالم الثالث" أو " السينما البديلة " وغيرها من المداخل والمناهج والمقاربات. وأملنا أن يستمر التفكير في مناهج الدراسات السينمائية مفتوحا ومهيأ لاستقبال أبحاث أخرى جديدة ومتنوعة لإثراء الفكر النقدي والتحليل العملي وتاريخ السينما معا بمزيد من الإضاءات الكاشفة لواحد من أهم الفنون الحديثة في عالمنا المعاصر.

 

الهوامش

  1. نذكر من الكتب المهتمة بدراسة تيارات البحث في مجال الدراسات السينمائية كتاب "مقدمة في الدراسات السينمائية" من تحرير جيل نلمز (1996) و"دليل جامعة أكسفورد للدراسات السينمائية" من تحرير هيل وتشرشيل جيبسون (1998) وكتاب " الفيلم والنظرية. مختارات " من تحرير روبرت ستام وتوبي ميلر، (2000).
  1. Marc Ferro, Cinema et Histoire, Paris: Gallimard, 1993, p. 10.
  2. Seymour Chatman, Coming to Terms. The Rhetoric of Narrative in Fiction and Film. Ithaca and London: Cornell University Press, 1990, p. 2.
  3. Jean Mitry, Esthètique et psychologie du cinèma, Paris: Èditions Universitaires, 1963, p. 131.
  4. Andrè Gardies, `25 ans après: un bilan. Entretien avec Christian Metz’, in Cinem Action, 25 ans de sèmiologie, no 58, janvier 1991, p. 86.
  5. Laura Mulvey, Visual and Other Pleasures, Palgrave Macmillan, 1989, 2009, p. 15.
  6. Gilles Deleuze, Cinèma. 1- Image- mouvement, Paris: Minuit, 1983, p. 7-8.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *